د. طاهر موسى الحسن
يكتب
حميدتي وإعلان الهزيمة (1-4)
قبل عام تقريباً وتحديداً في 4 أكتوبر 2023م نشرتُ مقالاً بعنوان (عود الثقاب الذي أشعل الحريق) في أربع حلقات، دار مضمونه حول أسباب تمرد حميدتي في منتصف إبريل 2023م، ومنها الإتفاق الإطاري الذي كان على قمة أسباب قيام الحرب التي قضت على الأخصر واليابس، وجعلت المواطن السوداني المقهور بين عشية وضحاها، إما لاجئاً خارج بلده، أو نازحاً ومشرداً في الولايات المختلفة، ذكرت في ذلك المقال المواقف الداخلية والخارجية من الإتفاق قبولاً ورفضاً، والترتيبات المطلوبة لمعالجة الأوضاع التي آلت إليها الأحوال بعد التمرد المشؤم، وكان ذلك قبل أن يعلو صراخ قائد المليشيا يوم 9 أكتوبر 2024م في الخطاب الذي تناقلته وسائل الإعلام المختلفة، ويعترف بأن الإتفاق الإطاري هو سبب من أسباب هذه الحرب، وهو نفس الإتفاق الذي أراد حميدتي أن يتخذه رافعة للوصول إلى السلطة، وهدد به شركائه من العسكريين في المجلس السيادي، ظناً منه بتلقي دعم غربي وإقليمي غير محدود يحقق أحلامه، ويصير أميراً متوجاً على عرش السودان، بمباركة دولية وإقليمية. أفاقته الهزائم المتتالية التي تلقتها قواته والمرتزقة المساندين لها في ميادين المعارك المختلفة من حلمه، فجاء خطابه محبطاً (بكسر الباء) لمؤيديه ومناصريه سواءً على مستوى القوات التي تقاتل في صفه، أو على مستوى القوى السياسية التي كانت تحلم أن تحكم تحت حماية بندقيته، أو الدول الإقليمية التي عقدت معه الصفقات لقبض ثمن دعمها له بعد أن يتوج أميراً على عرش السودان، أو الدول الغربية التي ترى فيه سماً وترياقاً ينهي وجود الإسلاميين في الحكم بحيث لا تقوم لهم قائمة أبداً، وتسعى عبره تمرير قيمها ومفاهيمها وما تراه هو الأصوب لحكم الشعب السوداني الذي تعتقد أنه في طور الحضانة، ويفصل بينه وبين الحضارة الغربية وثقافتها مراحل لا يمكن أن يبلغها طالما أنه شعب مسلم بالفطرة التي تأبى أن تنحط للدرك الذي وصلت إليه الحضارة الغربية التي تحارب كل فضيلة.
تبارت الأقلام في تحليل مضمون الخطاب ومحتواه، أياً كان من قدم الخطاب إن كان قائد المليشيا بشحمه ولحمه، أو الذكاء الإصطناعي معجزة العصر، فإن الخطاب جاء محبطاً لقواته بدل أن يرفع من معنوياتهم، فكان الإعتراف بهزيمة قواته في جبل مويه، وهو الأمر الذي ظل ينفيه أشاوسه في الميديا بكل (قوة عين)، وحمل المسؤولية للطيران المصري، وهي شماعة علق عليها فشل قواته في الإحتفاظ بالمواقع التي إستولت عليها سابقاً. تمثلت حالة الإحباط وبوادر إعلان الهزيمة والإستسلام في تحميله للمجتمع الدولي نتائج هزائم قواته التي تحارب الإسلاميين نيابة عنه، وتخليه عنهم بدلاً من حمايتهم عبر المؤسسات الدولية المختلفة، لما لا أو ليس هو الذي رفع لواء الإطاري وخير الشعب السوداني بين القبول به أو الحرب؟. بعد هذه التقدمة اسمحوا لي بنشر المقال المشار إليه مرة أخرى، لأن الشئ بالشئ يذكر.
عود الثقاب الذي أشعل الحريق.
سطعت شمس يوم السبت الرابع والعشرين من شهر رمضان 1444هـ الموافق 15 إبريل 2023م على العاصمة السودانية الخرطوم، كاشفةً عن مظاهر إنتشار عسكري كبير لقوات الدعم السريع بزيها المعروف، مدججة بكافة أنواع الأسلحة على متن عربات الدفع الرباعي وناقلات الجند الكبيرة، في وقت كان سكان العاصمة يتهيئون لإستقبال عيد الفطر المبارك، ويعِدُ بعضهم العُدة لمغادرتها لقضاء أيام العطلة وسط الأهل والأحباب في الولايات المختلفة، ولكن زخات الرصاص، وإنفجار الدانات، وأزيز الطائرات الحربية سرعان ما غطى سماءها, معلناً بداية الحرب التي كانت تلوح في الأفق، ونغمةُ التهديد بها, وقرع طبولها, أو التحذير منها, (الإطاري أو الحرب)، تسيطر على الساحة السياسية, من قادة تلك القوات, وداعميها من قيادات قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، طوال الأيام التي سبقت ذلك التاريخ، وكانت الحجةُ رفض الجيش تنفيذ وثيقة الإتفاق الإطاري التي وقعت عليها (قحت المجلس المركزي), مع المؤسسة العسكرية في (5 ديسمبر2022م)، بكل أفخاخها التي وضعها مهندسو الوثيقة، وأولها عقبة العلاقة بين مؤسسة القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع، من حيث التبعية والمدة الزمنية، لدمجها في الجيش. إذ ظلت قضية الإصلاح الأمني والعسكري محل خلاف وجدال مستمر بين الأطراف المدنية والعسكرية طوال الفترة الإنتقالية، إلا أن الكل كان متفقاً على ضرورة وسرعة الدمج، لا سيما دمج جيوش الحركات الموقعة على إتفاقية سلام جوبا، وكذلك قوات الدعم السريع في الجيش الوطني الواحد، من أجل مؤسسة عسكرية واحدة، ذات عقيدة موحدة، تؤدي مهامها في حماية الدستور وحدود البلاد، إلا أن تباين وجهات النظر بين الأطراف المختلقة كان حول الطريقة والكيفية التي يتم بها هذا الدمج.
ومن الأسباب التي عمقت الأزمة الراهنة أيضاً، حالة الإنقسام والتوهان الذي عاشته البلاد عقب نجاح ثورة ديسمبر 2018م، ومظاهر (العسكرة) التي شهدتها الخرطوم بتواجد قوات حركات الكفاح المسلح، نتيجة توقيع إتفاق سلام جوبا، وقبلها قوات الدعم السريع التي تم إستدعاؤها، وبأعداد كبيرة، إبان تصاعد المظاهرات ضد حكومة الإنقاذ، والتي لم تعد إلى معسكراتها في دارفور كما كان يفترض. فضلاً عن تدخل السفارات الأجنبية في الشأن الداخلي والذي بات مكشوفاً منذ بداية الثورة وأصبح تواجد الدبلوماسيين الكثيف وسط الثوار أيام إعتصام القيادة العامة منظراً مألوفاً، وكذلك تواصلهم مع الأحزاب السياسية وبشكل علني، كتحدى ماثل إلى يومنا هذا، مع تباطؤ المجلس العسكري حينها، والحكومات اللاحقة، في حسم مثل هذه الظواهر الشاذة في العرف الدبلوماسي.
في الحلقة الثانية سوف نتطرق المواقف الداخلية والخارجية من الإتفاق الإطاري التي تناولها المقال في إكتوبر 2023م.